قالت الذبابة للنحلة:
- صحيح أن جناحَك جميل، وحجَمك كبير، ولونَك زاه.. إلا أنك لا تفوقينني في شيء!. فأنا أملك جناحاً مثلك، ولوني -يا نحلة- أزهى من لونك، ثم إن حجمي الصغير لا يضيرني؛ بل يعينني على الطيران السريع، ويمكّنني من الانقضاض حين أريد، والانطلاق متى أشاءُ..
ولم تجب النحلة... إنها مشغولة بامتصاص الرحيق...
وتضايقت الذبابة من تجاهلها... فعادت إلى المباهاة ثانية:
- لا أنكر أن لديك إبرة دقيقة تلسعين بها، لكنني أذكّرك بخرطومي... الدقيق أيضاً، والذي أرتشف به القاذورات.
وأصرّت النحلة على التزام الصمت، لديها الآن عمل يجب إنجازه، وهي تحبّ إذا عملت عملاً أن تتقنه.
***
لا مبالاة...
هذا ما يمكن أن تفسّره الذبابة، وهي تتابع ما تقوم به النحلة لكنها.. لن تيأس، ستحاول من جديد، ستحاول استفزاز النحلة، ولفت
انتباهها بأية وسيلة!
تبدأ بالطيران... تدور حول النحلة مرة، مرتين، ثلاث مرات.. وهي تطنّ طنيناً مزعجاً: ز ز ز ز ز ز ز .....
أخيراً.. لعلّ النجاحَ تحقق، والهدفَ قد أصابته.. فها هي ذي النحلة تلتفت إليها....
ولكن؛ لم ترمقها باحتقار؟. لِمَ تقول بلهجة قاسية:
- لا أحبّ أن أضيّع وقتي مع اللاهين، ولكنّ غرورَك لا يطاق!!!
وصمتت قليلاً، ثم تابعت حديثها:
- هل تظنين يا ثرثارة، أن ما ترددينه، يرفع من منزلتك، ويجعلك موضع حب ومحطّ احترام؟!
قالت الذبابة:
- وماذا يهمني من الحب والاحترام؟!. فما دمت سعيدة.. أحقق ما أريد، وأعيش كما أرغب.. فلن أسمع آراء الآخرين عني!.
قالت النحلة:
- عجباً!. وهل هذه سعادة!!. سعادتك الحقيقية يا ذبابة في خدمة الآخرين، وليست في ايذائهم!.
قالت الذابابة؛ وهي تلعق بقايا نتنة:
- وماذا تقدّمين أنت للآخرين؟؟ إنني أراك -طوال النهار- تطيرين من زهرة إلى زهرة.. تلعبين وتمرحين، ثم تعودين أدراجك دون أن تقدمي شيئاً يفيد!.
حركت النحلة قرنيها دهشة.. صاحت بنزق:
- ماذا أقدم للآخرين!!. إنك جاهلة؛ بل في منتهى الجهل!. ألم تسمعي بعسلٍ فيه شفاء للناس؟ هو طعام حلو لذيذ المذاق، يحتاج إلى خبرة في الصنع، وصبر في العمل.. أوه!. ما أكثرَ الأزهار التي نمتصّ رحيقها، كي نصنع العسل داخل خلايانا.
وضحكت الذبابة قائلة:.
- العسل، العسل... يا سلام!. كم طردوني وأنا أتذوّقه! حقاً إنه لذيذ، أهنئك على مهارتك في صنعه...
لكنك يا مسكينة؛ تتعبين وتتعذبين، كي يقطف الآخرون ثمار أتعابك!!..
ابتسمت النحلة وهي تقول:
- ولكن كما ترين.. أنا أخدم الآخرين وأفيدهم، أنا لا أفعل ما تفعلينه أنت.. فكم من نائم أيقظته بدغدغةٍ مفاجئة، وكم من مريض أزعجته بمزاحٍ لا يُحتمل، وكم من معافى نقلت إليه المرض بجراثيم تحملينها!!..
طارت الذبابة قليلاً، ثم حطّت على كومة من الأقذار، وأنشأت تتمرغ فيها مردّدة:
هكذا أريد أن أعيش، لا يهمني أمر الآخرين: أَستاؤوا أم غضبوا، مرضوا أم قلقوا... كل هذا لا يعنيني، ولا ألقي له بالاً!.
وقاطعتها النحلة:
- ولكن الإنسان لن يدعك حرة طليقة... تفعلين الأفاعيل، وتعيثين في الأرض فساداً.. لا؛ سيأتي يوم تخسرين فيه كل شيء، أسمعت: كل شيء!. ربما يكون هذا اليوم غداً، وربما بعد غد...
قالت الذبابة متهكمة:
- الإنسان!. هه!! مسكين، لقد حاول قتلي مرات ومرات... حاول بـ (المذبّة)؛ لكنّ خفّتي حالت دون وصولها إلي، حاول بالمبيدات، غير أني هربت حين رأيت دخانها من بعيد... حاول بشريط لاصق، لكنني لست ممن يُخدَعون بتلك الحيل.. حاول المسكين، وحاول.. وكل محاولاته باءت بالفشل... لا، لن أمكنّه منّي، فأنا أفوقه ذكاءً!. وسأبقى دائماً.. على الرغم من أنفه... قريبة من طعامه، من شرابه، من جسده.. أمتع نفسي بتلويث غذائه، وإقلاق راحته.
***
واحتد النقاش، وعلت الأصوات.. والنحلة الحكيمة تجادل الذبابة المغرورة، ولكن لا فائدة!. فالذبابة مصّرة على التمسك بموقفها، وقد أخذتها العزّة بالخطأ!!
وبينما هما على هذه الحال، اقترب طفل من مكانهما، وشرع يلعب بين الأزهار، يقفز هنا ويركض هناك، ويحاول الإمساك
بفراشة جميلة تحوم حوله.
حين لمحته الذبابة، قطعت الحديث بقولها:
- ألا تَرَيْنَ هذا الطفل الوسيم، ما رأيك لو أزعجناه؟ إنه سعيد على ما يبدو، ولا أحبّ أن أرى أحداً سعيداً.
أجابت النحلة: لا؛ لن أزعج الآخرين.
وسخرت الذبابة منها وهي تطير نحو الطفل: إنك تحرمين نفسك من اللهو واللعب.
وصاحت النحلة: توقفي أيتها الحمقاء، دعي الطفل وشأنه.
ولم تصغ الذبابة... بل سارعت إلى وجه الطفل، وحطّت عليه.
وتضايق الطفل من دغدغة الدبابة، تحرك يده وهو يقول:
-كش!.
فطارت وهي تراوغه؛ ثم عادت فحطّت هذه المرة على أذنه.. فضربها بغضب، لكنها استطاعت تفادي ضربته.
ولم تكتف الذبابة، فهي مصممة على المضي في الإزعاج، شرعت تدور وتدور ثم هبطت على كفّه الصغيرة... هنا؛ توقف الطفل تماماً عن الحركة.. أغلق فمه، وكتم أنفاسه... ثم مدّ يده الأخرى بهدوء؛ وفجأة.. طاخ!! وتحولت الذبابة أشلاء متناثرة...
***
نظرت النحلة إليها طويلاً، ثم هزت رأسها، وطارت إلى زهرة قريبة متفتحة.