-1-
عندما انصرف (سامر) من المدرسة، وولّى وجهه نحو بيته النائي.. لم يكن يتصور أن مغامرة مثيرة تنتظره!.
فقد اعتاد سامر منذ طفولته، أن يحيا حياة خالية من التجديد، محرومة من المفاجآت والمغامرات!.
لكنّ هذا اليوم؛ خالف الأيام الأخرى.. فقد جاءت معه مشكلة هزّته هزاً!. وكما يقول المثل: (الشدائد تصنع الرجال).. فقد أمسى سامر - بفضل ماجرى- رجلاً.. ولا كلّ الرجال!!.
***
كان هذا اليوم.. يوماً جميلاً مشرقاً؛ فالطقس معتدل، والشمس الذهبية تدغدغ وجوه المارة، والعصافير الملونة تزقزق وتطير هنا وهناك، أما النسمات العليلة؛ فقد كانت تداعب أوراق الأشجار، فيُسمع لها حفيف لطيف يطرب الآذان..
وكان سامر سعيداً للغاية، يتنسّم الهواء النقي، ويمتع عينيه بمشاهد الطبيعة الخلابة.. والمسكين لا يعلم ماذا يخبئ القدر!.
وعندما وصل إلى البيت، طرق بابه طرقات خفيفة، لم تفتح والدته بسرعة.. كعادتها!. فانتظر قليلاً، ثم عاد إلى الطرق وهو يظن أمَّه نائمةً، أو مشغولةً بعمل ما.. لكن الوقت مرّ ببطء، ولم يفتح أحد!!!
- ما الخبر؟!.
تساءل سامر، ومن حقه أن يتساءل!. فوالدته لا تخرج في هذا الوقت.. وقت عودته من المدرسة، منذ وفاة والده.. وهي تحاول أن تجالسه دائماً، ولولا قوانين المدرسة لرافقته إليها، كي تطمئن عليه، وتحظى برؤيته بين حصة وأخرى!.
- أين هي! هل أصابها مكروه؟!
وارتعش خوفاً حين ورد هذا الهاجس، أراد إبعاده... لكنه لم يستطع له دفعاً، بل أخذ يكبر ويكبر حتى ملأ رأسه كله!!!
- ماذا يفعل؟
سؤال محير فعلاً!!
- أيطلب النجدة... أم يحاول أولاً معرفة ما جرى؟.
ودار حول المنزل.. يتفحص نوافذه، فلمح واحدة وقد فُتح أحد مصراعيها.. تسلّق إليها بخفة، ثم تسلل منها بهدوء، وما كادت قدماه تلمسان الأرض، حتى جرى نحو غرفة أمه.
قرع الباب... فلم يرد أحد!. حرك المغلاق ودفعه ببطء.. وعندما نظر إلى الداخل، لم يستطع تمالك نفسه، فأَفْلَتَ من بين شفتيه صرخةً مدويةً:
- أماه، أماه!!
-2-
كانت والدته مستلقية على السرير، وقد وضعت كفها اليمنى على ساعدها الأيسر... وجهها شاحب، وأنينها يمزق القلوب!..
وهُرع سامر إليها، يسألها بلهفة وحرقة:
- ماذا جرى.. ماذا جرى؟؟!.
لم تستطع الإجابة، فآلامها ألجمت لسانها!!..
لكنها أشارت إلى إحدى الزوايا.. وعندما التفت سامر؛ فوجئ بثعبان يفوق طوله المتر!. راقد من غير حراك، وقد تكوّم على نفسه.. اقترب منه، وحدّق إليه بحذر.. أدرك أن رأسه مهشم بضربة عصا.
اتضحت ملامح القصة، وتخيل سامر ماحدث.. يبدو أن الأمر جرى قبل قليل، فهذا ما فهمه من حركات أمه...
انهمرت الدموع من عينيه، أحسّ بالعذاب يكوي قلبه.. ولكن.. كل هذا لن يفيد!.
ماذا يفعل لإنقاذها؟. فسم الأفاعي قد يقتل، واللدغة تحتاج إلى علاج سريع؟
لا هاتف يصله بالطبيب...
ولا دراجة تحمله إلى أقرب مشفى..
ومنزله متطرف.. ناء، والوقت يمرّ... يمرّ سريعاً!!.
***
ركبتاه تصطكان، الخوف والقلق يركبانه!.
- يجب أن أتمالك أعصابي..
قال سامر لنفسه.
- سأواجه الأمر بشجاعة.
عاد إلى محادثتها...
- لكن علي أن أفكر بسرعة.. بسرعة!!
-3-
ما أجمل أن يستفيد المرء من دراسته!.
وما أحلى تحوّل الكلمات عملاً يُعمل!!
وسامر.. طالبٌ مجّد في صفّه.. يستوعبُ دروسَه، وقلّما تخونُه ذاكرتُه...
في حصة (العلوم)... قرأ يوماً عن لدغ الأفاعي، وحفظ طريقة لإنقاذ المصاب.
لماذا لا يكرر معلوماته؟.
- فكرة معقولة.. بل معقولة جداً!.
والآن.. لا مجال للتردد، فالوقت يمضي، وهو بحاجة إلى كل دقيقة، بل كل ثانية!.
***
ربط ساعدها ربطاً محكماً...
ثم أتى بسكين.. ارتجفت يده عندما همّ بجرح مكان اللدغ، كيف يجرح يد أمه؟. كيف يدع دمها يسيل؟؟ لا، لا.. إنها أمه، لا يريد إيلامها... قلبه خائف، يده مرتجفة... لكن، حياتها أثمن من كل شيء.. لا مجال للتردد.
ونظر إلى وجهها الشاحب، رأى ابتسامة ساحرة تشجعه.. عادت ثقته بنفسه، وبحذر شديد شق مكان اللدغ، وترك الدم الملوث يسيل ويسيل، ثم أدنى فمه، وشرع يمص الدم من الجرح ويبصقه..
بعد قليل؛ توقف..
- آه... ماذا سأفعل الآن؟. أوه؛ لا بد من تطهير الجرح.
أين المادة المطهرة... حسناً... ها هي ذي.
***
بعد تطهير الجرح، غطاه بشاش نظيف مبلل.. ولما اطمأن إلى حسن إسعافه.. ودع أمه قائلاً:
- لا تتحركي يا أماه.. سأعود بعد قليل.
-4-
ركض سامر كالمجنون في الطرقات المقفرة... فالوقت ظهيرة، والناس في بيوتها تنشد الراحة!. حاول إيقاف سيارة؛ لم يوفق... قرر متابعة طريقه جرياً، جرى وجرى، حتى كادت أنفاسه تنقطع، لم يأبه لتعبه وإرهاقه، فأمه ماتزال في خطر، أمه الحبيبة قد تموت، يجب إنقاذها بأية وسيلة.
ولاح المستوصف من بعيد... ضاعف من سرعته حتى بلغه، دخل والعرق يغمر كل جسده!. اقتحم غرفة الطبيب؛ قائلاً بصوت متقطع:
- أ... أ.. أمي، في.. في خطر، أدركها يا.. يا.. دكتور.
فوجئ الطبيب بدخوله... قال بهدوء:
- هدئ من روعك.. ما القصة؟!.
وأشار إلى كرسي.. تابع كلامه:
- استرح... استرح قليلاً.. أنت مرهق!.
صاح سامر، وشفتاه تختلجان من التأثر والانفعال:
- لا.. لن أجلس، المهم أن تنقذها.. هيا، هيا.. بسرعة...
ترك الطبيب مكتبه، اقترب من سامر، ربت على كتفه بحنان قائلاً:
- اطمئن... سأبذل قصارى جهدي... ولكن أخبرني أولاً، ماذا حدث؟!.
قال سامر وهو يغالب غصته:
- لقد لدغها.. ثعبان.
ابتسم الطبيب وقال:
- لاتخف.. سآتي معك حالاً.
وتناول محفظته الطبية، وضع على عجل بعض الحقن والأدوية، ثم أمسك بيد سامر، وأسرع به نحو سيارة الإسعاف..
***
ما أثمن الوقت!.
لحظاته تُشْتَرى أحياناً بالذهب..
هيا أيتها السيارة، أسرعي، أسرعي.. فأمي في انتظاري... احفظ أمي يا رب.
هل ننقذها، أم نصل بعد فوات الأوان؟!
أسرعي يا سيارة، أسرعي.. فها هو ذات البيت يلوح من بعيد...
- هنا يادكتور.
وتوقفت السيارة، وترجل منها سامر أولاً:
- هيا.. يا دكتور، سأسبقك إلى الباب
وركض... فتح الباب وهو يلهث.. صاح:
- أماه، أماه.. ها نحن قد جئنا.
وحاول دخول الغرفة، لكن الطبيب أمسكه برفق، ثم دلفا معاً... وأسرعا إلى الأم الراقدة، نظر الطبيب إليها وهو يتنهد بارتياح:
- الحمد لله... ماتزال على قيد الحياة!.
-5-
في الحفل الساهر، الذي أقامته المدرسة تكريماً لسامر.. قال المدير وهو يشدّ على يده:
- بوركت يا طبيبنا الصغير.. بوركت، نحن فخورون بك وبأمثالك من الطلاب النجباء، حقاً.. نِعْمَ الفتى أنت!.
وصمت قليلاً، ثم تابع حديثه:
- والآن.. يسرّني أن أقدّم -باسم زملائك ومدرّسيك- هذا الوسام الرفيع، زيّن به صدرك، وارفع به رأسك، عسى أن يحذو الآخرون حذوك في المواقف الصعبة.
وعندما قلده المدير وسام الشجاعة، وسط هتاف وتشجيع أصدقائه ومدّرسيه... ترقرقت الدموع في عينيه، لكن دموعه هذه المرة؛ كانت... دموع فرح....